انتفاضة قسنطينة سنة 1934م


استوقفتني لافتة معلقة أمام باب مسجد سيدي لخضر 

المتواجد بأحد أحياء قسنطينة القديمة،  تتضمن حادثة من إحدى الحوادث التي شهدتها مدينة قسنطينة خلال الحقبة الاستعمارية و التي لا تزال مجهولة من قبل الكثير
فهي حادثة تتعلق بإعتداء شخص من الطائفة اليهودية على إحدى المعالم الإسلامية للمدينة، مما أدى إلى مايسمى بانتفاضة قسنطينة، التي انطلقت شرارتها في شهر أوت من سنة 1934 بين اليهود و المسلمين ، و التي دامت لعدة أيام  ، ولمعرفة التفاصيل أكثر لابد من الوقوف على الظروف التي كانت تعيشها قسنطينة آنذاك لفهم حيثيات الحادثة.

مر العالم خلال الثلاثنيات من القرن العشرين بأزمة إقتصادية شلت الإقتصاد العالمي ، وقد كان لهذه الأزمة وقع بالغ على النشاط الإقتصادي بالجزائر ، الأمر الذي  جعل مدينة الشرق الجزائري قسنطينة هي الأخرى تعاني من هذه الأزمة التي خلفت غليان إجتماعي بسبب تفشي البطالة في أوساط المجتمع القسنطيني المسلم، وتزايد استغلالات الطائفة اليهودية بفرض ممارساتها الربوية على الأهالي المسلمين نتيجة احتكار اليهود للمعاملات المالية و التجارية وخاصة بعد الصلاحيات التي منحها لهم قانون كريميو ، فازداد نفوذهم بسبب هذه الامتيازات التي استغلوها للتطاول على المسلمين مما زاد الهوة اتساعا بينهم وبين المسلمين،  ليتطور الأمر إلى اعتداءات جسدية مست مثقفين و موظفين وحتى العلماء من بينهم الإمام عبد الحميد إبن باديس الذي تعرض لإعتداء نتيجة لمواقف الإمام إتجاه القضية الفلسطينية التي تناولها في مقالاته مثل مقال «فلسطين الشهيدة» التي ذكر فيها اليهود بالحياة الكريمة التي كانوا يعيشونها في ظل الإسلام والمسلمين،  ومقال آخر بعنوان«شهداء فلسطين الدامية» والذي حث فيه المسلمين على الجهاد ضد الصهاينة في فلسطين، إلى جانب الإحتجاجات التي كان يقدمها كل مرة للحكومة الفرنسية التي استنكر فيها مشروع تقسيم فلسطين ووقف المجازر الصهيونية في حق الفلسطينيين ؛ إن هذه الكتابات الجريئة وجدت فيها الإدارة الفرنسية فرصة للتخلص من الإمام عبد الحميد بن باديس من جهة ولإيقاض نار الفتنة بين المسلمين و اليهود من جهة أخرى،  إلا أن الإمام أخفى تلك الحادثة حتى يتجنب الفتنة بين المسلمين واليهود.
بعد أن بلغت تصرفات اليهود مبلغا من السوء جاء اليهودي الياهو خليفة ليشعل الفتيل بين مسلمي قسنطينة ويهودها حيث تعود القضية إلى يوم السبت 3 أوت 1934م  بعدما قام اليهودي الياهو خليفة بالإعتداء على المسجد الذي كان الشيخ عبد الحميد إبن باديس يلقي دروسه فيه،حيث قام اليهودي بفعل مشين و إهانة المصلين أثناء أدائهم لصلاة العشاء ، ما دفع المصلين إلى الثوران غضبا، لكن قَيّم المسجد تمكن من تهدئة الوضع بحجة أن اليهودي في حالة سكر، واعدا إياهم بتقديم شكوى لدى الشرطة ضد اليهودي المتطاول على حرمة المسجد
فقدمت الشكوى لمقر الشرطة الفرنسية بحي" رحبة الصوف"، فطمأنتهم بأنها ستعاقب اليهودي على فعلته ، ولكنها لم تفعل شيئا مما شجع اليهودي إلى معاودة سب الدين و الرسول، و لكن هذه المرة رفقة زوجته ، وتطور السب إلى قذف بالحجارة من نوافذ مسكنهما ما أشعل فتيل الفتنة التي اندلعت يوم 05 أوت 1934م ،  حيث أقدم القسنطنيون على تكسير محلات اليهود وإتلاف بضائعهم، وفي الوقت ذاته تعرضت محلات المسلمين الموجودة في “حومة اليهود” إلى نفس المصير لكن الأضرار لم تكن بحجم تلك المسجلة في المحلات اليهودية  ، ما فتح المجال إلى فوضى عارمة واشتباكات عنيفة خلفت قتلى وجرحى من الطرفين  ، وهنا أعلنت حالة الحصار ومنع التجوال إلا برخصة مرور
ولتهدئة الوضع تم استدعاء الشيخ عبد الحميد بن باديس من قبل مدير الشرطة، ومطالبته بتهدئة الناس فتمكن الإمام إلى جانب عدد من رجال جمعية العلماء المسلمين من تهدئة النفوس وإيقاف إراقة الدماء
و أوفدت السلطات الفرنسية لجنة لتقصي الحقائق من كلا الجانبين ليخلص هذا التقرير إلى أن أطروحة الأهالي اليهود أقرب للحقيقة وحكمت المحكمة البوليسية حكما قاسيا وغريبا فقد حكمت على ''إلياهو خليفة'' المعتدي الذي تسبب في الحوادث بين اليهود والمسلمين وراح ضحيتها أزيد من 20 شخصا ، بيومين سجنا و5 فرنكات خطيئة لقيامه بهذه الحوادث.
ومن العجيب أنه لم يقدم للمحاكمة أي يهودي، بينما حكم على العديد من المسلمين الجزائريين بالأشغال الشاقة ما بين 5 سنوات إلى مدى العمر.
ولقد تباينت ردود الفعل إتجاه هذه الحوادث :
فالبنسبة للردود الفعل الجزائرية بكل توجهاتها وحركتها الإصلاحية و الشيوعية كلها كانت ضد التعدي اليهودية وقد ساند الجزائرييون من كل ولايات الوطن إخوانهم بقسنطينة وهذا دليلا على تلاحمهم وغيرتهم على دينهم.
أما بالنسبة للمواقف اليهودية فقد إعتبروا هذه الأحداث مدبرة ضدهم وطالبوا السلطات الفرنسية بتطبيق رقابة على جمعية العلماء و النواب وجمعياتهم ومنظماتهم التي تحرض على مثل هذه الأعمال،  أما القلة القليلة من اليهود  نددت بفعلة اليهودي المعتدي واعتبرته المتسبب في الأحداث.
أما الردود الفعل الفرنسية حول هذه الأحداث ومواقفها فواضحة وقد حملت المسؤولية للمسلمين وللحركة الإصلاحية و جمعية العلماء المسلمين.
أما دوليا فقد أرسلت الصحافة العالمية مراسليها لتغطية الأحداث.

ولقت هذه الاحداث صدى عربيا كبير فقد وقفت أغلب بلدان العالم العربي موقفا جليلا مع الجزائريين ،  إذ أقيمت بكل من سوريا و العراق و الأردن وفلسطين صلاة الغائب على أرواح شهداء قسنطينية الذين سقطوا في هذه الحوادث المؤلمة.
كما تلقت الجزائر الدعم من مصر وفلسطين فقد جمعت بفلسطين تبرعات لمساندة مسلمي قسنطينة المنكوبين، وقام بإرسالها الأستاذ محمد أمين الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف.
وقدرت هذه الإعانات بخمسين جنيها إسترلينيا وخمس شلنات، وهذا ما يعادل بالعملة الفرنسية 3650 فرنكا، بعد أن حول عن طريق بنك في لندن إلى الجزائر، ووزع هذا المبلغ على العائلات القسنطينية المتضررة، والتي بلغت حوالي 53عائلة، وكان المبلغ الممنوح لكل عائلة وفقا لحجم الضرر، وقد تكفلت جمعية العلماء المسلمين بتوزيعه .
 لاقت هذه الحوادث مساندة كبيرة من المثقفين العرب،  نذكر منهم الشاعر اللبناني المسيحي ايليا أبو ماضي
إذ كتب وهو بالمهجر، في مجلة السمير مقالا مطولا تحت عنوان« فتنة قسنطينة- نقمة المقهور»،ذكر في  مقاله بأن هذه الفتنة المشؤومة تعتبر الأولى من نوعها في تاريخ الجزائر، محملا مسؤولية هذه الحوادث إلى الصهيونية العالمية، التي غيرت نظرة العالم الإسلامي إلى اليهود، من عنصر وطني إلى عنصر مغتصب منذ وعد بلفور الذي منحهم أرض فلسطين العربية ؛ كما أرجع هذه الحوادث إلى الأسباب السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية السالفة الذكر.  كما إعتبر أن ثورة المسلمين في قسنطينة ضد اليهود هي ثورة المجروح المقهور في كبريائه ودينه ومعتقده.
تناولت الجرائد العربية حوادث قسنطينية منها الجرائد التونسيية كجريدة الزهرة، وجريدة النهضة إذ أدرجت هذه الحوادث في مقالات مطولة تناولت فيها أسباب الحوادث ومجرياتها وما خلفته هذه الحوادث على الصعيدين المسلم واليهودي.
لتتناول الصحف المصرية هي الأخرى هذه الحوادث كجريدة البلاغ المصري التي تحدثت عن الحوادث وارجعت  سببها إلى عوامل إقتصادية.
كما أشارت جريدة الأهرام المصرية ما حصدته الحوادث من الجرحى والقتلى والسبب المباشر للحوادث ودور العقلاء المسلمين من علماء ونواب في تهدئة الناس.
خلفت حوادث قسنطينية نتائج وانعكسات على المستوى الإقتصادي و السياسي و حتى الإجتماعي فقد أحدثت شرخا في العلاقات بين الطائفتين المسلمة و اليهودية ،فقد قاطع المسلمين تجارة اليهود لفترة.
أما بالنسبة للجانب الإقتصادي فقد قدر عدد الخسائر بـ: 150 مليون فرنك فرنسي، كما تم تحطيم أكثر من 200 محل تجاري، هذا إلى جانب عدد كبير من منازل اليهود التي  أتلفت بسبب الحرائق التي نشبت.
أما المسلمين فلم تكن خسائرهم بحجم خسائر اليهود إلا أن هذا لا يعني أن الضرر كان خفيفا، وإنما سبب ذلك قلة التجار المسلمين الكبار وبالتالي قلة محلاتهم ومخازنهم،
أما بالنسبة للجانب السياسي فقد أحيت حوادث قسنطينة الروح الثورية في الجزائر فقد تلاحمت القوى الوطنية واتحدت كلمتها ، كما أن هذه الحوادث كانت عامل مساعد فيما بعد للجالية اليهودية في الجزائر للإستجابة للمشروع الصهيوني الذي من دعائمه الهجرة والإستيطان في فلسطين.
لم تكن حادثة قسنطينة التي وقعت بين مسلميها ويهودها الأولى من نوعها في تاريخ المدينة فقد حصلت حادثة مثلها في العهد العثماني وقد أحدثت هزة عنيفة داخل مدينة قسنطينة ، فقد سرد لنا الشيخ عبد الكريم لفقون في كتابه منشور الهداية قصة جرت لجده مع الجندي اليهودي الذي يدعى المختاري الذي اعتنق الإسلام وسب الرسول ،  فأمر جد الشيخ عبد الكريم لفقون بقتله فكادت أن تقع فتنة في المدينة لأن العسكر كانوا مع زميلهم اليهودي وضد قتله،  فلما حدثت الفوضى انعقد مجلس الشورى وحضره الباي و الجنود و العلماء وكان الجميع قد قالوا بعدم قتل ذلك اليهودي،  غير أن عبد الكريم لفقون جد عبد الكريم فقد أصر على الحكم بموته، وانقسم المجلس وخرج الخبر للشارع وكثر الضجيج والضغط على الشيخ ولكنه لم يتزحزح عن موقفه إلى أن خضعوا جميعا لرأيه وتم الحكم على اليهودي حتى لا تتكرر مثل تلك الأفعال الشنيعة من يهود المدينة، وتكون هذه الحادثة عبرة لهم ، وبالفعل لم يتكرر هذا الفعل إلى غاية العهد الاستعماري ليأتي اليهودي الياهو خليفة  ليكرر نفس الفعلة ،غير  أن الحكم لم يكن نفسه فقد نجا هذا المعتدي بفعلته .

المصادر:

-ابن باديس، «فاجعة قسنطينة»، آثار الإمام عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين ج5، مطبوعات وزارة المجاهدين،2005 .

- صالح خرفي، الجزائر والأصالة الثورية.

- مالك بن نبي، مشكلات الحضارة مذكرات شاهد قرن.

عبد العزيز فيلالي، إعتداء اليهود على أهل قسنطينة سنة 1934. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مصطلح عيشة راجل

الألعاب الشعبية في الجزائر