قصة البوغي

يزخر  التراث القسنطيني  بالعديد من قصص الحب الغرامية التي عرفت أغلبها نهايات مأساوية، ومن أشهر هذه القصص قصة البُوغي التي وقعت في القرن الثامن عشر ميلادي ،  و التي جمع الحب فيها بين  نجمة بن الحسين  القسمطينية  وجاب الله بن سعد  العنابي  ، وخلدت هذه القصة الشعبية  في التراث الجزائري مع أغنية مالوف ألف قصيدتها بطل القصة  جاب الله الذي لقى حتفه بعدما غناها ، ومن ثم أصبحت تغنى في أعراس  قسنطينة ، وأشهر من غناها الشيخ ريموند  و محمد  الطاهر الفرقاني. 

وقد أطلق إسم البُوغي على القصيدة و القصة معا للدلالة على البطل،  و كلمة البوغي تحولت من الباغي الذي هو إسم فاعل مصوغ من الفعل ابغى أمرا أي أراده، وقد أعرض المحكي الشعبي  عن كلمة الباغي وأصر على تكريس البوغي حتى وإن كان هذا الإسم ليس له أي مدلول في المعجم العامي القسنطيني ولا يعرف لهذه الكلمة إستعمال آخر خارج هذا السياق. 

 ومن الباحثين من يرى أن كلمة البوغي جاءت من كلمة البغية الذي استهل بها جاب الله  مطلع قصيدته (بالُبُغيَة تقوى غرامي)

وقد اختلف الرواة في سرد تفاصيل القصة لأنها كانت محاطة بالكتمان لكونها قصة حقيقية تخص أعرق العائلات القسنطينية في ذلك العهد الذي حدثت فيه و الذي كان إثر نهاية العهد العثماني و بداية  دخول الإحتلال الفرنسي إلى مدينة قسنطينة، وقد كانت  أحياء و أزقة هذه المدينة العتيقة  شاهدة على ذلك الحب العذارى الذي جمع  بين نجمة و جاب الله العنابي ذلك الفتى البسيط الذي جاء قاصدا قسنطينة للعمل كطراز (حراج) في إحدى محلات الطرز كما أنه اشتهر أيضا  بنظمه للزجل  واحترافه  للغناء في أعراس العائلات القسنطينية ، أما  نجمة بن الحسين فهي  إبنة أحد أشراف قسنطينة وزوجة لواحد من عائلة البايات وقعت في حب هذا المغني بعد أن التقت به صدفة في المدينة وبدأ التواصل بينهما  خفية عن طريق الرسائل التي كانت  تنقلها بينهما يهودية، وفي إحدى الأيام  تم دعوة  جاب الله  إلى مجلس  لإحياء جلسة فنية لاحترافه العزف و الغناء وقد كان المجلس مكونا من أكابر المدينة وبعض أصدقائه،  وفي آخر الجلسة  يتفاخر الحضور بغرامياتهم و يخرج كل واحد من جيبه  تذكارا من حبيبته  ويضعه في صينية الرشق التي توضع في وسط المجلس  ويذكر إسم معشوقته ،  غير أن جاب الله لم يكن يملك دليلا ليظهره  لأقرانه فوعدهم بالإتيان بالإمارة في الأيام المقبلة  كما جاء في القصيدة :

هودت للبستان نغسل عقلي طارب

نلقى جماعة زاهيين نادوا علي

حلفوني باليمين جزت لقداهم نزارب

نلقى خوذ مشهرين وصفرة منشية

كلهم متماثلين ولاد مضارب

كل آخر اجبد سالف ولفه يا خويا

و انا الممحون صار دمعي يسكب

فزيت فالحين زدت لعبوا رجليا

توجه بنفسه ليلا إلى بيتها وطلب منها أن ترسل له دليلا من عندها يثبت مشاطرتها لهيامه من نافذة بيتها، ولم يشترط عليها شيئا محددا كما جاء في القصيدة:

غيبت على اقداهم وجزت للزينة زارب
قلتلها جيتك بغيظ ناري مقدية
اعطيني ما يوالم ويناسب

قصت نجمة خصلة من شعرها الطويل وضفرتها بحبات الجوهر الأبيض و  ربطت الخصلة  بحزامها ورمته من نافذة بيتها الكائن في أعلى القصبة:

قالتلي والله ما يفيدك بخلف القطايع

اديها وافخر على جميع من يصحب

ظفرتها لي بالجوهر النفوسي من غاية

حطت فيها حجرتين كالبرق اللاهب

دربتها لي بالحزام لن وصلت ليا

 فتلقف جاب الله الخصلة وتوجه  بها إلى المجلس  فرحان وألقى بها على صينية الرشق وفصح بإسم صاحبتها :

كمثل الثعبان صرت نمشي و نزارب
حين وصلت شور الرجال لا لوم عليا
قالوا لي وين غبت عنا يا صاحب
قلت لهم ابطل منامي
و هدف ليا فكر كالبحر
جاني بالموجات دافع
بحر الحب غليلي طامي
و سالف نجمة سابغ الشفر
لن دهشوا ذوك الربايع

 ليبتدره أحد أصدقائه المقربين  بأنه قد جاء شيئا نكرا  وعليه أن ينفي نفسه من المدينة وإلا سيكون جزاؤه الموت و نصحه بالتوجه إلى زاوية بولجبال للمبيت فيها ريثما يظهر ضوء النهار (انقل روحك تا سوايع - لا يروح لحمك وزايع)

وقد كان الاختباء بمثل هذه الأماكن الدينية سواء زاوية أو مسجد كان بمثابة حصانة لا يقربه فيها أحد حتى وإن كان الباي نفسه 

وصل جاب الله  إلى عنابة وحيدا خاليا من الزاد وكل مايملك خصلة الشعر المرصعة بالجوهر الثمين  وقد وصف نفسه في القصيدة فيقول :(نجوب القفار والسالف زادي)

وفي مدينة عنابة عرف بعزوفه عن الخمر و المحرمات :

 تبت على الاريام و الخمر 

قلت انا لله راجع

 أما نجمة فبعد سماعها بخبر رحيله تعبت حالتها النفسية وظلت تنتقل من عرافة  إلى أخرى أي من قزانة إلى أخرى لتنبئنها  بالغيب، وقد كان اللجوء للعرافة ظاهرة متفشية في المجتمع القسنطيني قديما سواء عند العامة أو عند الأسر العريقة. 

وبعد مرور ثلاث سنوات من غيابه  أخبرتها  إحدى العرافات  أنه سيعود إليها وستلتقي به في لمة كبرى لكنها لا تعرف إن كانت عرسا أم مأتما؟ فأوحى لها ذلك بفكرة وبخطة للقاء به فأرسلت إليه دعوة للحضور إلى قسنطينة  لإحياء حفل ختان ابنها

ما إن وصل الرسول إلى جاب الله  وأعطاه البشارة حتى هبّ مسرعا للسفر:

وجا لي مرسول بالخبر

وحدثني بلفظ الشنايع

و يسترسل  في القصيدة : ( وصلت لمدينة الهوا عقلي طاير) ، أي وصلت  لمدينة قسنطينة التي كانت  تسمى بمدينة الهوى فرحان ، ثم  توجه إلى  صديقه القديم الذي انجده  وأخبره بالخبر فأشار عليه أن يتريث لأن في الأمر غاية في الخطورة  قد يؤدي  به للتهلكة  ولكن  جاب الله أصر على قراره: 

اقدمت على الموت في رضى نجمة مرادي
وانا ادخلت عقب الظلام
اقصدت رفيقي و صاحبي
على الغفلة المساهر فاجع
سلمت و قبل سلامي
و ذيك الساعة اعلنت له الخبر
قال انا لرضاك طايع واختار الي يلب بدمي

توجه جاب الله مع صديقه لحفل الختان و غنى قصيدته التي تروي حكايته  كاملة و أفصح في غنائه عن إسم نجمة ، معاتبا ومعتذرا:

نجمة يا نجمة ما بقالك صواب في اللوم عليا

راني غديت لقاك في الشنايع و الباطل

اتبقاي بالخير يا المتهومة بيا

هذا آخر وداعنا والوعد اكمل

كرهوني يا الزهو خاطري ناسك بغضية

لا يلوم غرض خلف ولا مشغال

رضاو قتلي قوم الحسود شفايا فيا

لو ما انت ما نتكره في سبت راجل

 هذا الإفصاح جعل زوجها يسارع لدرء الفضيحة ويأمر بإخفاء فردة حذاء جاب الله،  وعندما إنتهى الحفل انشغل جاب الله بالبحث عن فردة حذائه حتى انصرف الناس ، فهجم عليه زوجها وقتله بالسكين،  ولأن  زوجها يتمتع  بحصانة مجتمعية  لكونه من أحد أفراد البايات اباح لنفسه  تطبيق القصاص فقتل جاب الله.

أما نجمة فلم تتحمل ما شاهدته من خلال شرفة البيت الداخلية ،فألقت بنفسها  مع ابنها الذي كانت تحمله من تلك الشرفة ، وهكذا تحوّل العرس إلى مأتم ، ويروي لنا أحد القصاصين قصة البوغي باللهجة المحلية كالآتي:

قالك ما قالك على نجمة بن حسين سليلة السادات كاملة الزين عقيلة البايات كحيلة العين، اشتات جاب الله العنابي خياط عند اليهود زجال حسيني  (يقصد به مقام الحسين في فن المالوف )،  ما يعرف رمل ما يعرف ديل  جاي من البحر سحابة بلا مطر بصح كي يمطر في الفن ما تغيبلو لا نوبة لا وتر ، عاونتها المناولية الي قطعت سرتها وحفظت سرها ولادة النسا مولاة الهمة و الدين ( أي أن المناولية أو طباخة بيت نجمة هي التي كان توصل الرسائل ليد نجمة بعد أن تسلمها اليهودية الرسائل،  فاليهودية لم تكن تسلم الرسائل إلى نجمة شخصيا بل كانت تسلمها للعجوز المناولية وهذه الأخيرة تسلمها لنجمة ، وتعتبر اليهودية  مرسولا  لتوصيل الرسالة من مرسل إلى مرسل إليه)

جابتلها برية من عند الخياطة اليهودية وقالتلها هاك لمزية تعرفي تقراي لا ودن تسمع ولا قلب يخدع( أي أن  المناولية عندما تسلم الرسالة لنجمة لا تعرف مابداخل الرسالة  فتقول لها من حسن حظك أنك تقرئين فتأتيك الرسائل وتقرئينها في صمت فلا يسمع بالقصة أحد ) ، حكمت نجمة البرية ووقفت عند المراية باية بنت  باية القد باهي و القلب زاهي بصح كون يشوفوا البرية واش يلحقها من غمرات ، قرات ما فيها وخباتها تحت قاع الصندوق هدا جاب الله طلبولوا صحابو دليل العشق يداعي  فقيه في نحو الغرام وما عندو حتى شي من اماير نجمة، قصت سالفها ( أي خصلة من شعرها )  وضفرتو بالجوهر ربطتو بحزامها ودرباتهولو من العلي، حكموا جاب الله ومشى لاصحابو تحت الريميس ( بمكان يجتمع فيه مع أصدقائه في مجلس الونس)،   وعلى سينية الرشق ظهر اماير العشق قالولوا سمي قال الجوهرة القصبية قالولوا القصيبات بزاف ، قال نجمة الي مضربها في السما ، شاع الخبر و المكمي داع واجتهر شار عليه صاحبو قال انفي روحك من البلاد أخرج على باب الواد روح بات في بولجبال في الزاوية و الصباح دبر ركبة وانتلف لا تروح  طراف ، مشى جاب الله لعنابة مدة تلت سنين لا خبر لا نظر ونجمة منوية من مرابطة لمرابطة قالت المرابطة: كاين فارس مولى جود ومحاسن راه مغرب عليك بصح يولي ، راني نشوف في الناس ناس بزاف ملموين المضرب يبانلي رحبة فيها نسا ورجال يادرى وليمة  موت لالا ماشي قرح جاني زي الفرح في وسط دار كبيرة بصح فرح غريب راني نشوف  راجل واقف وأنت وراه ملمومين في خيال واحد السما غيمت والريح هيج المضرب فرح والا قرح ما عرفتش ابنتي هادا مانجمت عليه؛  دزت  نجمة مرسول لجاب الله باه يغني في طهور ابنها ، جاه المرسول وقاللوا عندي ليك بشارة،  قاللوا البشارة كاينة بالخير وكاينة بالشر ،  بلغ اصاحبي ما تخافش، قالك جبتلك برية من بنت بن حسين ، قرا البرية وقال للمرسول يبلغ بالقبول،  بات في خلاط كبير،  في غيض المنام يشوف في شايب لابس برنوس أبيض ،  حاطو هو ونجمة تحت جنحيه ومديهم واين ماكان لا ونس ولا جن (أي أن جاب الله رأى في حلمه شيخا وقورا في لباس أبيض يأخده هو ونجمة إلى البعيد و  هذا الشيخ ماهو إلا الموت حسب المعتقد الشعبي) ، فطن بالفجعة وطار عليه النعاس، الصباح مشى لقسنطينة القلب راغب و العقل راهب،  دخل لدارها وغالبو لقصيد انطق نعطيك راس البيت:

بالبغي اتقوى غرامي

ماهلكني الا سابغ الشفر

نتابع في مرضاه والع

بعدما رقدت همومي

تبت على الاريام و الخمر

قلت انا لله راجع

لمنين بعتي سلامي

جا لي مرسول بالخبر

حدثني بلفظ الشنايع

الزجل عطر المسا و النوب شطح النسا المحارم تتطاير و الشنايع تتفاخر  (أي أن النسوة بدأت ترقص الزندالي وتحركن محارمهن يمينا ويسارا) بصح لا نوب يدوم ولا قلب يلوم، خرج جاب الله لقى سباطو مفرد قعد يحوس عليه حتى تفرقت الملمة، ساقو راجل نجمة للدهليز عرف الأمر واقع ، قاللو وصيها ترد بالها من طيور اليل لا يطفيوها، تقتل جاب الله بالسكين مات جاب الله ونجمة من الدرابزي تسعى في الخبر وما كدبت في شر هزت ابنها وعجلت بالرحيل تقادفتهم وسط الدار والروح عيطت يا حليل، فرح والا قرح كيما قالت المرابطة، فات الخريف وزاد الشتا و الروض حزين لا نسرين لا سوسن و الطيور من كل جهة تنوح.

وهكذا كانت نهاية  حكاية البوغي التي أخفى  التاريخ تفاصيلها  لفترة طويلة  من الزمن،  غير أن الأغنية  لم تختفي بل كانت طليقة حرة تجول داخل أسوار المدينة في مقاهيها و اعراسها وبيوتها ، كانت ولازالت  تطرب مستمعيها،  لكن القليل من يسهو مع  كلماتها التي تحمل  إحساسا غريبا قد يكون  حزنا ممزوجا بفرح ربما لأن مصدر شيوعها كان من  عرس تحول إلى مأتم. 

أغنية البوغي بصوت محمد الطاهر الفرقاني 

https://www.youtube.com/watch?v=orFKED_dFw0

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مصطلح عيشة راجل

انتفاضة قسنطينة سنة 1934م

الألعاب الشعبية في الجزائر