الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر


 من أشهر الأصوات التي ظهرت في الجزائر في بداية القرن العشرين  ونادت بالإصلاح  صوت الامام عبد الحميد  ابن  باديس الذي قاد حركة اصلاحية منذ عام  1914م وقد كان لهذه الحركة دور كبير في نهضة الجزائر .

فقد ظهر الشيخ عبد الحميد بن باديس في وقت كان الشعب الجزائري في أمس الحاجة إلى امثاله، فمع ظهوره كان الشعب يعاني أشد أنواع القهر وصنوف العذاب من المحتل الفرنسي الذي سعى  منذ احتلاله للجزائر في سنة 1830م لتخريب وتدمير معاهد العلم الاسلامية التي كانت تشع بنور العلم و المعرفة في الجزائر فشرد  علماء هذه المعاهد وطلابها وحول ما تبقى من مساجد إلى كنائس.  

كما أراد هذا الإستعمار الغاشم تحطيم وطمس الهوية الشخصية العربية الاسلامية  الجزائرية  فسرع للقضاء على اللغة العربية واماتتها بإصداره قانونا ينص على اعتبار اللغة العربية لغة أجنبية  في الجزائر ويمنع تعليمها في المدارس وحتى في البيوت ، ومن القرارات التعسفية التي أصدرها أيضا مرسوم 1892م و الذي يقضي بمنع أي جزائري  يفتح مدرسة إلا بعد الحصول على رخصة من الإدارة الفرنسية ،وجدد هذا المرسوم  عام 1904م  محددا مصادر الحصول على الرخصة وشروطها في أن يمنحها عامل العمالة أو الضباط العسكريون في المناطق الخاضعة للحكم العسكري  وفق الشروط التالية:

-اقتصار التعليم على تحفيظ القرآن الكريم وحده 

-عدم التعرض بأي وجه كان إلى تفسير القرآن خاصة تلك السور  التي تحض على الجهاد في سبيل الله وتدعو إلى محاربة الظلم و الاستبداد

- استبعاد تدريس الأدب العربي و اللغة العربية بجميع علومها 

-الابتعاد عن تعليم المواد العلمية و الرياضية 

- أن يظهر المعلم و الذي يتولى التدريس اخلاصا وولاء للإدارة الاستعمارية ،ويخضع لأوامرها مهما كان شأنها  

-استبعاد تدريس تاريخ الجزائر وتاريخ العرب  و المسلمين وجغرافية الجزائر و البلاد العربية و الإسلامية 

فكان تلاميذ الجزائر وطلابها لا يعرفون شيئا عن جغرافية بلادهم سوى أنها مقاطعة أو محافظة فرنسية،وهكذا استطاع التعليم الفرنسي أن ينسى الطالب الجزائري لغته وتاريخه  ومجده ويقبح له دينه كما قال الشيخ ابن باديس رحمه الله .

وكان من نتيجة هذه السياسة الفرنسية  التي اصدرت هذه القوانين الجائرة  في حق تعليم أو اكتساب وسيلة لتعليم اللغة العربية أو فتح مدرسة لها أن أصبحت نسبة الأميين من الجزائريين 92,2 بين من تتاروح أعمارهم  من 5 إلى 18 سنة و 90 بالمئة بين من تجاوزت أعمارهم الثمانين عاما، وقد لخص ابن باديس حالة التعليم في الجزائر  في سنة 1939م بقوله :" لقد كان هذا العبد يجاهد قبل عقد من السنين في هذا القطر القريب من الفناء ليست له مدارس تعلمه وليس له رجال يدافعون عنه ويموتون عليه، بل كان في اضطراب دائم مستمر وياليته كان في حالة هناء وكان ابناؤه يومئذ لا يذهبون إلا للمدارس الأجنبية التي لا تعطيهم  غالبا من العلم إلا ذلك الفتات الذي يملأ ادمغتهم بالسفاسف حتى إذا أخرجوا منها خرجوا جاهلين دينهم ولغتهم وقوميتهم وقد ينكرونها،هذه هي الحالة التي كنا عليها في تاريخنا الحديث ،ولهذا أدرك ابن باديس في وقت مبكر عظم المسئولية ولهذا ركز في بداية حركته الإصلاحية على العمل التربوي لإعادة بناء وصياغة جيل جديد، فوضع خطة محكمة للنهضة الشاملة في مجال الإصلاح الديني و التربوي فكان يقول:" فإننا نربي و الحمد لله تلاميذتنا على القرآن ونوجه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وفي كل يوم وغايتنا التي ستتحقق أن يُكَّوِن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم،وعلى هؤلاء الرجال القرانيين تُعلق هذه الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها".

وهكذا كانت بداية دعوته الإصلاحية بالمسجد الكبير بقسنطينة بعد تخرجه من جامع الزيتونة  وذلك بدروس يلقيها في المسجد  لكن سرعان ما اوقفته الحكومة الفرنسية، ثم عاد إلى مزاولة عمله الدعوي بعد رجوعه مباشرة من أداء فريضة الحج  متخدا من المسجد الأخضر بقسنطينة معهدا يعقد فيه حلقاته العلمية من دروس عامة ليلية  في الوعظ و الإرشاد للكبار، وأخرى خاصة تكوينية نهارية للطلبة في شتى العلوم. 

ففي اليوم الواحد كان يقدم  عشرة دروس أو أكثر، يبدأ التدريس بعد صلاة الفجر ويقضي طيلة نهاره مدرسا الأطفال الصغار،وكان لا ينقطع إلا لصلاة الظهر، وبعدها لتناول قليل من الطعام ثم يواصل تدريسه لهم إلى غاية صلاة العشاء فوجا فوجا، ومن التاسعة ليلا إلى منتصف الليل ينتقل إلى تدريس الكبار. 

فانهال عليه طلاب العلم من الجبال و السهول الوافدين على المعهد الصغير الجامع الأخضر حتى أصبح يضم مايقارب الألف من الطلبة مما دفع الأمر بالإمام إلى التفكير في ضرورة فتح مدرسة لاستيعاب أفواج الطلبة المتزايدة، فأسس في عام 1926 م مدرسة للتعليم الإبتدائي أطلق عليها إسم المكتب العربي في بناية تقع فوق مسجد سيدي بومعزة و أسند إدارتها إلى الشيخ مبارك الميلي أحد طلابه الأوائل، ثم انتقلت المدرسة بعد اشتداد الإقبال عليها إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية لاتساعها  و التي تأسست عام 1917م. 

لتتحول سنة 1930م في مرحلتها الأخيرة إلى مدرسة بإسم مدرسة التربية و التعليم الإسلامية، حيث حرر قانونها الأساسي وقدمه بإسم الجمعية  إلى الحكومة فصادقت عليه وقد تحدث الشيخ عن بدايات الأمر الإصلاحي ومراحله  قائلا:" كان التعليم المسجدي بقسنطينة قاصرا على الكبار ولم يكن للصغار إلا الكتاتيب القرآنية فلما يسر  الله لي الانتساب للتعليم 1332ه، جعلت من جملة دروسي تعليم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها في آخر الصبيحة وآخر العشية فكان ذلك أول عهد بتعليم الصغار ،ثم بعد بضع سنوات رأى جماعة من الفضلاء المتصلين بي تأسيس مكتب أي مدرسة يكون أساسا للتعليم الإبتدائي العربي فأسسناه ، وكان الأخوان الفاضلان السيد العربي و السيد عمر بن مغسولة قد اشتريا مسجد سيدي بومعزة و البناء المتصل به وكان فوق بيت الصلاة محل للسكنى بالكراء فازالاه عن ذلك وأبقياه محلا فارغا فجعلناه هو محل المكتب ثم نقلناه إلى بناية الجمعية الخيرية لاتساعها،وفي سنة 1349ه 1930م رأيت أن أخطو بالمكتب خطوة جديدة وأخرجه من مكتب جماعة إلى مدرسة جمعية فحررت القانون الأساسي لجمعية التربية و التعليم الإسلامية وقدمته بإسم الجماعة المؤسسة إلى الحكومة فوقع التصديق عليه".

 وتكونت إدارتها  من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ  ونائب له وأمين للمال ونائب له وكاتب للعربية وكاتب بالفرنسية وأربعة أعضاء.  

وكان الغرض من هذه المدرسة هو المحافظة على الشخصية الإسلامية العربية بكل مقوماتها بل اثرائها وتجديدها، ولذا فإننا نجد في القانون الأساسي لها  أن غرضها من الوجهة التربوية هو تربية أبناء المسلمين وبناتهم  تربية إسلامية بالمحافظة على دينهم ولغتهم وشخصيتهم،ومن الوجهة التعليمية تثقفيف أفكارهم بالعلم و تعليمهم الصنائع، وكانت قيمة الإشتراك فيها  فرنكين للبنين القادرين على دفع الرسوم ، أما البنات فيتعلمن كلهن مجانا، وقد أقر الشيخ بن باديس مجانية تعليم البنات في مدرسته لتشجيع المرأة وفي هذا يقول:" ندعو إخواننا المسلمين إلى المبادرة بأبنائهم وبناتهم إلى المكتب أي مكتب جمعية التربية و التعليم بقسنطينة، فأما البنون فلا يدفع منهم واجب الرسوم إلا القادرون،وأما البنات فتعليمهن كلهن مجانا  لتتكون منهن بإذن الله المرأة المسلمة المتعلمة "،وكان يرى أن تعليم المرأة المسلمة وتكوينها تكوينا صحيحا يؤدي إلى إصلاح الأمة و تكوين رجال مصلحين فكان يقول رحمه الله :"فإذا أردنا أن نُكَّوِن رجالا فعلينا أن نُكَّوِنَ أمهات دينيات ولا سبيل لذلك إلا بتعليم البنات تعليما دينيا وتربيتهن تربية إسلامية وإذا تركناهن على ماهن عليه من الجهل بالدين فمحال أن نرجو منهن أن يُكَّوِن لنا عظماء الرجال ". 

وقد تقدم ابن باديس خطوة رائدة في تعليم المرأة حيث أنه بعد أن أنهت بعض التلميذات دراستهن في مدرسة جمعية التربية و التعليم  فكر في ارسالهن إلى مدرسة جمعية دوحة الأدب السورية. 

لم يقتصر الشيخ في مدرسة  التربية و التعليم على أبناء قسنطينة  بل حث الناس على  إرسال أبنائهم إليها للتعلم من جميع مناطق الجزائر التي كان يزورها ليلقي محاضراته بها ، كما  كان يحث شيوخ الطرق الصوفية على إرسال تلاميذتهم .

وهكذا أقبل الطلبة من مختلف المناطق على هذه المدرسة فأصبحت تضم  سنة 1939م أكثر من  800 تلميذ وتلميذة، وكان الشيخ يخاطب الطلبة أو المنتسبين إلى المدرسة مبينا طبيعة الدراسة ومراحلها قائلا: "انكم جميعا أبنائي وخير لي ولكم أن تكون الرابطة بيننا منذ الآن لهذا يجب أن تعلموا من أنكم مطالبون بقضاء فترة  هنا عندنا لا تقل عن ثلاثة سنين وبعدها تختارون أحد أمرين الإلتحاق بالمعاهد العلمية خارج الوطن لإتمام الدراسة أو التجند في كتائب المعلمين لأبناء هذه الأمة و العمل في ميادين الجهاد من أجلها ومن أجل المحافظة على دينها ولغة دينها " ،ويترك لهم أمر الإختيار الحر المسؤول ليذكرهم بعد تحديده قائلا :" أنتم الآن أطفال صغار وغدا إن شاء الله رجال كبار، وأنا لا أريد من هذه الرجولة إلا الشجاعة وشدة البأس في الحق و الخير و الفضيلة فخذوا حظكم من الشجاعة منذ الآن وحددوا معالم حياتكم منذ البدء، إن أمتكم وبلادكم بحاجة إليكم  ثم اعملوا في صبر ومثابرة وجلد على تحصيل العلم الذي به تهيئون أنفسكم لما أنتم عليه مقدمون".

لقد قامت هذه المدرسة بدور حضاري هام في مجال تربية وتعليم الناشئة حيث تخرج منها جيل كامل تحت إرشاد ابن باديس  متشبع بقيم الإسلام ولغته وآدابها،وكان يعلم جيدا أن أولئك المتخرجين سيكونون جندا يحارب الإستعمار فقد كان يقول:" أنا أحارب الإستعمار لأني أُعلم وأُهذب ومتى انتشر التعليم و التهذيب في أرض اجذبت على الإستعمار وشعر في النهاية بسوء المصير "،فلما جاءت ثورة الفاتح من نوفمبر قد وجدت الجيل المؤهل للقيام بها وخوض غمارها معدا كامل الإعداد ولم يكن ثوار الجزائر إلا أبناء هذا الجيل الذي ربته مدرسة الشيخ عبد الحميد بن باديس وبقية المدارس التي أنشأتها  جمعية العلماء  المسلمين ونواديها في الجزائر فقد بلغت جملة مدارس جمعية العلماء المسلمين  حتى عام 1954م، أكثر من مائة وخمسين مدرسة، يتردد عليها أكثر من خمسين ألف تلميذ وتلميذة يدرسون فيها مبادئ اللغة العربية وآدابها وأصول الدين ، وهكذا إستطاع الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله بمفرده أولا وبمساعدة إخوانه من العلماء و المصلحين ثانيا أن يقوم بتربية جيل وتكوين أمة جزائرية ووضع لها أصول نهضتها الفكرية و الإجتماعية ولازالت إلى غاية اليوم مدرسته التي أنشأها قائمة تحاكي تاريخ مؤسسها الذي عاش يؤلف النفوس ويشيد العقول ويبني الرجال كالجبال كما عنه العلامة البشير الإبراهيمي رحمهما الله . 





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مصطلح عيشة راجل

انتفاضة قسنطينة سنة 1934م

الألعاب الشعبية في الجزائر