الرقص بالتنورة

من أجمل ألعاب الطفولة التي لاتزال تحمل ذكريات عزيزة على قلوبنا   نحن البنات ، لعبة اللف و الدوران حول الجسم حتى يرتفع الفستان أو التنورة إلى فوق ، و الفائزة بدون منازع تلك الفتاة التي تتغلب على الدوخة وتدور  حول نفسها لمدة أطول  دون أن تسقط على الأرض  لترتفع تنورتها في الأخير  للأعلى  بفعل الدوران 
كانت تلك اللعبة تحمل في طياتها الكثير من المتعة فعندما نغمض أعيننا  ونرفع يدانا  وندور حول أنفسنا  نلج حينها إلى عالم آخر كفيل بأن ينسينا وقتها متاعب الدراسة
و بقدر ما للعبة من متعة بقدر ما لها من عمق ثقافي جرني الحنين  لماضي الطفولة إلى الغوص في أعماقه وسبر اغواره  لأقدم  للقارئ الكريم نظرة  موجزة عن جذور هذه اللعبة، و التي هي في الأصل رقصة شعبية تسمى برقصة التنورة  مستوحاة من فلكلور الرقص الشعبي المستوحى بدوره من التراث الصوفي العريق
وهي تركية الأصل نشأت قديما في تركيا العثمانية وانتقلت الى البلدان التي كانت تابعة للحكم العثماني كسوريا  و مصر لتنتشر إلى باقي دول شمال إفريقيا،غير أنها زالت  تقريبا في معظم بلدان الشمال الإفريقي  كالجزائر و تونس  وبقيت محصورة في مصر و المغرب الأقصى  كما  بقي  جزء  صغير من هذا التراث التقافي  محصورا في تلك اللعبة الشعبية المتداولة بين البنات والتي بالكاد نراها اليوم
إن رقصة التنورة بدأت قصتها بتكية الشاعر الصوفي  جلال الدين الرومي التي اشتهرت  بأداء الرقص الدائري وسط إيقاع موسيقى معين، ويكون هذا الرقص لمدة طويلة بحركة دورانية حول مركز الدائرة التي يقف فيها الشيخ ، والهدف من هذا الرقص هو الوصول إلى مرتبة الصفاء الروحي و التخلص من المشاعر و الأحاسيس النفسية فيهيمون في وجد كامل يقودهم من العالم المادي إلى عالم الوجود الإلهي حسب اعتقادهم؛  ثم صارت هذه الحركات الراقصة  و إلى غاية وقتنا الحاضر تقليدا فلكلوريا يؤدى من قبل راقصين ليس لهم في التصوف من شيئ،  بعدها قام الصغار بتقليد  هذا الفلكلور وحولوه إلى لعبة شعبية تمارس داخل ساحات المنازل ، وبالتأكيد فإن  لعبة الدوران هذه لم تنقل أولئك الصغار  إلى حالة الوجد التي ينشدها الدرويش المولوي  أثناء دورانه أو أثناء رقصه
ويعود إبتكار  هذه الرقصة إلى جلال الدين الرومي  في القرن الثالث عشر ميلادي، إذ يروى أنه في أحد الأيام سمع ضربات مطرقة أحد الصيّاغ في مشغله بأحد أزقة قونيا التركية ، فبدأ يرقص بشكل دائري، وهو يحس بأن لفظ الجلالة يدوي في قلبه
وعلى مدى عدة أيام راح الرومي ومريدوه يرقصون بهذه الطريقة على أنغام الأشعار التي كان يرددها ، وتحولت هذه الرقصة فيما بعد إلى جزء من الطريقة المولوية الصوفية التي اشتق إسمها من إسم مولانا  الذي كان يطلق على جلال الدين الرومي من قبل أتباعه ومريديه ، ويعتبر كثير من الباحثين أن المؤسس الفعلي للطريقة المولوية هو سلطان ولد، إبن جلال الدين الرومي،  فقد جمع ولد كل المريدين و التابعين لوالده  تحت مظلة واحدة سميت بالمولوية
وظلت هذه  الطريقة في تطور مستمر حتى القرن 15 م  وقد لمس هذا التطور جميع الطقوس الدينية للطريقة بما فيها الثياب التي انحصرت  في عدة اردية محددة يستعملها أعضاء الطريقة تبعا لرتبة الشخص المخصصة له  و المناسبة التي سيرتديها فيها
فثياب الدرويش تتألف  من تنورة بيضاء وحزام وطربوش خاص  يسمى بالسكة ويكون لونها بني فاتح ، بالإضافة إلى المست و الذي هو عبارة هو خف ينتعله الدوريش أو الراقص عند الدوران، فيما يرتدي كبار السن منهم الجبة السوداء فوق التنورة البيضاء ، و المشرف عليهم الذي لا يدخل إلى ساحة الرقص إلا متأخراً، فإنه يلف على الطربوش عمامة خضراء لتميزه عن غيره يطلق عليها الدستار
وقد تعددت التفسيرات لهذه الملابس وإلى ما ترمز فاللباس الأبيض يرمز  إلى الكفن، وفناء الحياة الدنيا، والتذكير بيوم الحساب، فيما يرمز بالحزام إلى الزهد والتقشف أما الطربوش المصنوع عادة من  من وبر الإبل فيرمز للصبر وتحمل المشقة كطبع هذا الحيوان 
أما التنورة  و التي هي المحور الأساسي  لهذه الطقوس فهي لباس ضيق بين الكتفين حتى الوسط  تم يتسع، ويرمز إلى أن لباس الدنيا فضفاض
ومن هذه الملابس أيضا  الجبة وهي رداء أسود ضيق يلبسه الدرويش فوق ملابسه  ويرمز هذا السواد إلى العزوف عن ملذات الدنيا
وتلبس هذه الثياب عند أداء العرض المكون من ثلاث دورات ، حيث يبدأ الدرواويش بالدوران على أطراف اصابعهم ويدورون حول محيط قاعة الأذكار وهذا مايعرف بدورة سلطان ولد نسبة لابن جلال الدين الرومي ،  وتكون هذه الدورة على إيقاع الدف و الناي وبعد تحية الشيخ بالانحناء قليلا يعاود الدوران
ويرافق ذلك نشيد رتيب تدور كلماته المكررة حول  وحدانية الله وبطلان الحياة الدنيوية ، وعند بدء الدرويش بالدوران تكون يداه على صدره حتى كتفيه وأصابعه مفتوحة وهذا تعبير عن أن الدرويش ممسك بالدنيا إلى صدره ولكن يديه تنزلقان شيئا فشيئا فتخرج الدنيا من صدره، تم يمد الدرويش يديه بامتداد كتفيه  وهذا يعني التذكير بأن هناك ملكين يراقبان الإنسان، ويكتبان أفعاله الخيرة و الشريرة ، ويرفع يده اليمنى ويبسط كفه وهذا كناية عن طلب المغفرة من الله فاذا جعل الدرويش يده اليسرى منخفضة قليلا وكفه نحو الاسفل فإن المراد من ذلك الإعراض عن التعلق بالدنيا، أما شكل اليدان وهما مرفوعتان فهذا يرمز للدعاء إلى الله،  وتكون قدم الدرويش اليسرى تابتة بالأرض للدلالة على الثبات على الحق و القدم اليسرى ترفع لاستمرار الدوران حيث يستغرق الدرويش بمعرفة ذاته وتلمس تهذيبها ،  أما وجه الدرويش أثناء الدوران فهو يتجه نحو يده اليسرى للدلالة على الإصرار على عدم التعلق بالدنيا
ويرتبط هذا الدوران بمنظومة دوران الكون فالقمر يدور حول الأرض، و الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس و المسلمون يدورون حول الكعبة وهذا الدوران يكون من اليسار نحو اليمين 
ويستمر الراقصون في الدوران إلى أن يبلغوا حالة من الصفاء الروحي والتأمل فهدفهم من هذا الرقص هو ربط عقولهم وقلوبهم بالخالق في علاقة عاطفية وجدانية تؤدي إلى السمو بروحهم  حسب اعتقادهم، ويقول جلال الدين الرومي في ذلك:" ليس الرقص حركات عشوائية مثل ريشة في مهب الريح ، بل هو تحليق القلب فوق مادية العالم لتسمو الروح وترتفع".
غير أن العديد من الطوائف الإسلامية عارضت هذا النوع من الرقص الصوفي كونه جزء من اللهو وهو مرفوض في الشريعة الاسلامية  ، وأن هناك طرق كتيرة توصل الإنسان إلى الخالق غير الرقص و السماع
ويرى البعض من أصحاب التصوف أن الطريقة المولوية  بعيدة  كل البعد عن التصوف الصحيح و أقرب إلى الدروشة ،  لأنها تميزت  بإدخال الإنشاد و الرقص و الموسيقى في حلقات الذكر  ، كما أن التأثير الفارسي واضح في طقوس هذه الطريقة ، وهذا  ماجعلها  بعيدة عن التصوف الصحيح وأقرب إلى الفلكلور الشعبي، فقد اجتذبت طقوس المولوية الأعين إلى الرقص ، وجعلت هواة الرقص يظهرون فيها مواهبهم ويطورونها ،  ففي مصر تطورت رقصة التنورة لتصبح تنورة حرة بدون جلباب لونت بعدة ألوان، حيث أخذ الجزء الأبيض من التنورة  وتم تلوينه بالألوان التي اشتهرت بها الطرق الصوفية المصرية فالرفاعية لها لون و الأحمدية لها لون وكذلك الحامدية الشاذلية فكل الألوان التي تم جمعها ووضعها على التنورة هي مستلهمة من الأعلام الخاصة بالطرق الصوفية محاولة لإرضاء كل هذه الطرق الصوفية ، مع العلم أن هذه التنورة لا تنتمي إلى طريقة بعينها ، كما تم  إضافة الدفوف و الفوانيس  لتصبح فنا استعراضيا متكاملا ، حضرت في إحدى المرات حفلا من هذه الحفلات الاستعراضية في مصر كان في منتهى الجمال حيث أن الراقص يدور دورات كثيرة حتى ترتفع التنورة إلى فوق ثم يختفي الراقص داخلها  كأنه مظلة تدور بألوانها الزاهية

واقتنيت تماثيل صغيرة لدراويش المولوية  لتبقى تذكارا  ، كلما رأيته تذكرت لعبة الطفولة النابعة من التراث العثماني القديم  ، وهذه التماثيل لدراويش المولوية تتخذ  وضعية تشبه وضعية الدرويش التي يتخذها وهو يرقص فالأيدي مرفوعة ويرتدي الجميع ثياب الطقوس المولوية كالتنورة البيضاء التي تستعمل للرقص و السترة القصيرة ذات الأكمام الضيقة،  بالإضافة إلى قبعات المولوية المميزة. 


 المصادر :
تكايا الدروايش الصوفية و الفنون و العمارة في تركيا العثمانية رايموند ليفشير ترجمة عبلة عودة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مصطلح عيشة راجل

انتفاضة قسنطينة سنة 1934م

الألعاب الشعبية في الجزائر