النشرة القسنطينة وطقوسها

لازالت نسوة قسنطينة من البلديات في المحكي المحلي لهن  ترددن عبارات (ندور عليكك ونتنشر عليك) ارتبطت بطقوس وممارسات  كانت لوقت قريب شائعة في الوسط البلدي يطلق عليها النشرة، ولقد ترسخت  هذه العادة  في المخيال الشعبي القسنطيني باعتبارها موروثا شعبيا يدل على الإنتماء للهوية القسنطينية
وكانت النسوة القسنطينيات تعتبر النشرة علاجا تقليديا  تعبر عنه بجملة "نطيش النشرة"  الذي تتألف صيغتها اللغوية من الفعل" نطيش" أي أرمي أو ألقي بعيدا عني للتخلص من شيئ أو أمر  ما ؛ و قد كان هذا الطقس العلاجي  بنسبة اليهن دواء للتخلص من الأمراض التي تصدر عن الأرواح الخفية حسب اعتقادهن ، وقد كان هذا الطقس يمارس كلما كان الاحتياج له ضروري وفي الغالب  مرة في السنة خلال فصل الربيع
 وقد عرف محمد شلبي طقس النشرة "بأنه علاج تقليدي تمارسه النساء بقسنطينة منذ أزمنة موغلة في القدم"
وقبل التطرق لتفاصيل هذا الطقس لابد من معرفة جذور الكلمة من مصادر اللغة العربية
النشرة في اللغة : على وزن فعله من النشر بمعنى  التفريق و الكشف وتأتي بمعنى البسط خلاف الطي ، يقال نشر الثوب ونحوه ينشره نشرا ونشره أي بسطه كقولنا أيضا بالعامية ننشر القش أي  أعلق الملابس لكي تجف ، ونقول أيضا  ننشر النعمة وذلك بنثر حبات الكسكس على قماش في الهواء الطلق بسطح المنزل لتجف
أما في الإصطلاح : فهي نوع من الرقي و التعاويذ يعالج  بها المريض و المجنون ونحوهم،  قال إبن الاثير : "النشرة بالضم ضرب من الرقية و العلاج  يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء أي يكشف ويزال" 
قال إبن منظور :"و النشرة رقية يعالج بها المجنون و المريض"
وكذلك هي نشر ماطوى الساحر وتفريق ما جمعه أي حل السحر عن المسحور وإزالته عنه
وفي الحديت أن عائشة رضي الله عنها قالت حينما سحر النبي :" هلا تنشرت " رواه البخاري
والنشرة تنقسم إلى قسمين: الأولى  التي تحل السحر عن المسحور أو التخلص من الأرواح الخفية التي تسكن الجسد  بالرقى و التعوذات و الدعوات الصحيحة المأثورة و الأدوية المباحة،  أجازها  العلماء  بدلالة الكتاب و السنة و إجماع الأمة  ولكن بشروطها المعتبرة 
أما النشرة من النوع الثاني: التي تكون بحل السحر عن المسحور بسحر مثله عن طريق الساحر أو الكاهن أو غيرها من الأمور الخارجة عن تعاليم الدين الاسلامي فهي غير جائزة
وقد كان شائعا قديما  عند أهل الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم  تعاطي أنواعا شتى من الرقي و النشر التي لا تخلو من عمل محرم ، فهي إما أن تكون بإستخدام الشياطين و التقرب إليهم كدعائهم فيها وذكر أسمائهم، أو بما لا يعرف معناه ويخفى علمه ومحتواه كالطلاسم ونحوها  أو غير ذلك ، فأبان الرسول حكم تلك النشر وماكان على صفتها وأخبر بأنها من عمل الشيطان  لقوله صلى الله عليه  وسلم:"هي من عمل الشيطان  " و الحديث وإن لم يكن فيه صيغة النهي ولكن فيه مايدل على النهي 
ومع تعدد الطوائف و العقائد  بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم و  ظهور التصوف  أقبل الناس  في البلاد الإسلامية على بناء أضرحة العلماء و المتصوفة وتقديسها بشكل خرافي، كما لجأوا إلى الطب الشعبي الخرافي الذي يستند على وسائل لا هي دينية ولا علمية،  فأصبح الشفاء و السقم و النفع و الضر يأتي من قبل شجرة أو ضريح ولي أو ماء معين أو كتابة على حرز حجاب أو نحو ذلك ، كما شاع الكشف الصوفي و أنواع النشرة المحرمة في بلاد المغرب العربي وبالجزائر خاصة  قبل مجيئ العثمانيين بزمن
وفي عهد الدولة العثمانية قل الإنتاج الثقافي و العلمي  لأن الدولة العثمانية كانت تهتم  بالجانب العسكري  أكثر من أي جانب آخر ، كما شجعت التصوف وبنت الزوايا ،  فعم الجهل و ابتعد الخاصة عن التعلم و إستعمال العقل
ومع مجيئ الإستعمار الفرنسي زاد الطين بلة وخاصة في أواخر عهده فقد انتشر الطب السحري و العلاج الروحي  بشكل كبير رغم ظهور بعض الأطباء الجزائرين  الذين تخرجوا من الجامعات الفرنسية،  إلا أن الجهل عم و الناس تعلقت في التداوي و العقائد بالشيوخ و الأشباح و الجن و الأرواح و الممارسات الشيطانية ،وارتبط ذلك كله بظهور موجة من البدع و الخرافات الغريبة عن الدين و العلم و العقل وكان ذلك  الإغراق في الخرافات يلذ للسلطات الفرنسية، فكلما غرق الناس في البدع و الخرافات و السحر و التعلق بالشيوخ كلما هدأت الأوضاع واستقرت البلاد في نظرها ؛ وكانت بصفة عامة تمنع من يدعو المسلمين إلى العلم و اليقظة و الخروج من التخلف 
وكان علماء الإجتماع الفرنسيين  في ذلك العهد ينشرون فكرة جديدة وهي أن المجتمع الجزائري سيتحلل من الداخل بنفسه وينتهي أجله عما قريب
وظاهرة اللجوء إلى الممارسات السحرية و الطب الخرافي لم تكن خاصة بجهة من جهات الوطن، بل انتشر هذا النوع في كل  أنحاء الجزائر 
غير أني اقتصرت موضوعي على ما حدث  في بعض الجهات الشرقية و بالأخص في مدينة قسنطينة فلكل جهة أو منطقة أولياءها وطقوسها الخاصة في النشرة  
فالنشرة في قسنطينة كانت ترتبط بأماكن معينة وممارسات خاصة ومميزة مما يدل على الإنتماء إلى الهوية القسنطينية، ومن خلال المسار الطقسي الذي سأتطرق لتفاصيله الدقيقة تنكشف الصور الثقافية المؤسسة للفعل العلاجي
ففي كل سنة من فصل الربيع تقوم المصابة أو "مولات النشرة" كما هو متعارف على تسميتها  تقوم  بتحديد الأسبوع  وتباشر بدعوة من سيرافقنها ، وتقوم بعقد النية لتنطلق بالطقس العلاجي الذي يبدأ يوم الثلاثاء بطقس الحمام فتحضر حقيبة الملابس و الحمام وتقتني بعض المستلزمات كالجاوي و الحنة ، كما تقوم بتحضير الطمينة التي سترمى "أي تطيش " بالأماكن المقدسة للأولياء الصالحين وبه يتم طقس الحمام الإبتدائي المعلن عن إنطلاق الطقس
يوم الثلاثاء  مع الرجوع من الحمام  تلبس فستانا وردي  اللون أي "قندورة وردي" وفي المساء تبارك الدواجن التي تم شراءها قبلا( لأنه يطلب منها أن تشتري دجاجتين ويكون لون إحداهما أبيض و الأخرى مختلطة الألوان  أو سوداء اللون) ، إذا كانت ستتجه للمواقع الأنثوية أي (مواقع مقدسة تكون على إسم امرأة كموقع لالة فريجة المتواجد بعوينة الفول)
أما إذا كانت ستتجه إلى المواقع الذكورية كإسم سيدي ميمون ولغراب وبولجبال فتشتري ثلاث سراديك
وتقوم بطقس الوضوء حيث تغسل أطراف كل طير ويمسح على رأسه ، مع العلم ( أنه  يوجد إلى  غاية اليوم من يقوم بمثل هذه الممارسة مع اضحية العيد تحت مسمى" نوضيو الضحية ")
 ثم تقوم بطقس التبخير و التسبيع بتدوير كل طير 7 مرات على قدر البخور الجاوي
ثم تقوم بتحضير طقس الطمينة البيضا وهي نوع من الحلويات التقليدية تصنع ليلا من الدقيق و العسل الأصلي  و الزبدة المحضرة من حليب البقرة الأصلي  مايسمى بالعامية "الزبدة تاع لبقرات"
وسميت  بالطمينة البيضا لأنه يستخدم في تحضيرها الدقيق غير المحمص على النار وتستعمل" للتطياش الحر " كما يسمى،  أما تلك التي يكون دقيقها محمص على النار فهي تخص نشرة الوصفان أي تتعلق بالنشرة التي تستدعي الوصفان  الذي   يميل لون بشرتهم للون الأسود وسنطرق إلى هذه النقطة فيما بعد  
ثم تقوم بطقس الحنة حيث تقوم بتلطيخ اليدين و الرجلين بالحناء مباشرة قبل النوم حتى لا تتعرض للتلف بفعل الحركة
يوم الأربعاء صباحا لما تنهض المصابة تنزع حنتها ثم تقسمها إلى 4 أجزاء وتخبأها في حقيبة الرحلة مع الطمينة و العطر الخاص وفساتينها المخصصة لهذا الغرض "القنادر تاع النشرة" ويشترط أن يكون لون الرداء أسود ولا تنزعه لمدة أسبوع ويمنع أن يرتدي أحدا فستانها أو "بشماقها "(نعلهاالذي ترتديه) أثناء طقوسها 
ثم تبدأ الرحلة الخاصة للتبرك باولياء المدينة قصد التماس بركتهم،  كما تتخلل تلك المسيرة ممارسات طقسية خاصة معبأة بالكثير من الرموز و القواعد التي تعد أساسيات يجب التقيد بها
ينطلق موكب من النسوة مصحوبات بأطفالهن حتى يمررن لهم طقوس الممارسة، لأن كل عائلة تمارسها من الجدية ولهذا فإن معظم من كان يمارس تلك الطقوس يقول:" ديتها من الجدية" فهي تنتقل بالوراثة، ويقوم  الرجال  بمهة التوصيل وذبح الدواجن، و يتوقف الموكب في كل مرة عند ولي معين
لالة فريجية مكان به قرابة بحي عوينة الفول يقال أنها تخص إمرأة مباركة كانت موجودة بالتقريب في سنة 1750 م، وكان يشاع أنها امرأة روحانية  تشفي المرضى  اتخذت لنفسها حيزا على شكل “قرابة” بمحاذاة عين يقال إن ماءها مبارك يشفي العليل ، حاليا اندثرت وتحولت إلى أكوام من الأتربة
 وبهذا المكان كان يتم ذبح الدجاجة البيضاء" يسيلو الدم" مع تبخير المكان وتعطيره بالعطر وماء الزهر برشه من المرش مع إشعال الشمع،و تقسيم القطعة الأولى من الحنة إلى أربعة أجزاء ورميها بزوايا المكان ، وترك قطعة من الطمينة بالموضع وشرب من العين المباركة مع الدعاء بالشفاء
 وبمسافة صغيرة عن لالة فريجية يوجد مزار سيدي ميمون الذي يعود تاريخ تواجده إلى سنة   1770م ،  قيل أنه ولي صالح يتمتع هو الآخر بكرامة شفاء المرضى ،و المزار على شكل مغارة صغيرة شبه مغلقة بها فتحة دائرية تستعملها النسوة للدخول و القيام بنفس الممارسات السابقة" تبخير المكان وتعطيره بالعطر وماء الزهر مع إشعال الشمع وتقسيم القطعة الثانية من الحنة إلى أربعة ورميها بزوايا المكان  مع ترك قطعة من الطمينة بالموضع" وذلك بعد أن يتم ذبح الديك بالمكان ، مع الدعاء بالشفاء،  ولاتزال بقايا هذا المزار قائمة إلا أنه تحول إلى وكر لشرب الخمر
وقد كانت النقطة الثالثة في المسار  بأسفل جسر سيدي مسيد  المسمى بإسم الولي الذي يرقد أسفله  سيدي مسيد  وهو من أشهر  الولية
كان يوجد بالقرب من ضريحه أكتر من عين مبارك ماءها، تذبح عنده دجاجة  لوجود الغابة،  و لأن الغابة مكان مؤنث فتذبح الدجاجة  ويسيل دمها وهذا الفعل هو بمثابة تقديم القربان بالمواقع المقدسة ضمانا للشفاء وتحسن الحال، وبعد عملية الذبح  تكرر نفس ممارسة الطقوس
 سيدي بولجبال هو مزار لولي صالح آخر  يتواجد بالجهة الشرقية لمنطقة الحامة  تمارس بهذا المزار نفس الممارسات  السالفة الذكر من ذبح الديك الملون مع تبخير المكان وتعطيره بالعطر وماء الزهر ومع إشعال الشمع، كما يتم التصدق على النساء القائمات على المكان
والنقطة الأخيرة للنشرة هي “سيدي لغراب” محطة أخرى للتبرك أين يرقد ضريح هذا الشيخ وهو مكان لا زال يحافظ على شكله القديم بعض الشيء؛ تعاود النسوة فيه  نفس الممارسات السابقة  مع طقس الحمام في حوض يصطلح عليه بالبرمة
ورددت عديد الروايات والأساطير حول المكان وتسميته  فمحمد الغراب الذي يدعى  بمحمد الزواوي الحنصالي شيخ زاوية “الشطابة” ، عاش في زمن صالح باي بايلك الشرق آنذاك، وقد كان دائم الخلاف معه  وهذا بسبب معارضته لبعض مواقفه ،وقد كان يرى صالح باي أن الزوايا فيها خطر على حكمه ، فاتهم صالح  باي محمد الزواوي  بالتخطيط للتمرد عليه فأصدر قرارا بإعدامه فنفذ الأمر أفرادا من جيشه  وقطعوا رأس الشيخ، ويقال أن الشيخ دعا على صالح باي أمام الملأ  قبل إعدامه ، وتذكر الأسطورة أن جثة الشيخ تحولت إلى غراب وحطت بحدائق أو "جناين صالح باي" التي كانت موجودة  في منطقة تسمى بالحامة ، فتشاءم الباي من الأمر وندم  على فعلته،  فأمر ببناء ضريح للشيخ بالقرب من حدائقه أو بالمنطقة التي أصبحت اليوم تسمى بالغراب حتى يكفر عما اقترفه،  رغم عدم وجود توثيق لهذه  الأحداث التاريخية التي تؤكد وقائع الحادثة إلا أن التواجد الكبير للغربان بالمنطقة قد غذى الأسطورة فأصبحت جزءا من التراث الشفوي الذي تتداوله الألسنة عبر الزمن
ومن يومها أصبح سكان مدينة قسنطينة وإلى وقت غير بعيد يقدمون القربان في ذلك المكان حتى لا يلحقهم الشؤم، وقد شاركهم في ذلك المعتقد اليهود الذين تقاسموا معهم بعض ممارسات هذا الطقس،  فاليهود أيضا كانوا " يطيشوا" إلا أنهم " مايديروش الوصفان ديروا لحر "فقط
وقد كان بالمنطقة التي أصبحت تسمى بالغراب أحواض مائية تشبه المغارات  تتوجه إليها مواكب النساء المصابات بغرض الإستحمام المبارك فتعقدن النية للتخلص من مصابهن وتقمن بتبخير المكان وتعطيره بالعطر ورشه بماء الزهر وإشعال الشمع ،وقد كانت النسوة تأتين بالتمر و الحمص و الجوز و اللوز فيرمينه في البرمة  فتأتي السلاحف تأكله فتولول النساء اعتقادا أن الجن قد رضيت بما فعلن
ومثل هذه الطقوس يظهر أنها ممعنة في القدم لأن الرحالة المعروف بإسم ليون الإفريقي أو الحسن بن محمد الوزان في رحلته المعروفة بإسم وصف إفريقيا في القرن 15م نجده يمر بقسنطينة ويخصها بوصف كالآتي :"على مسافة نحو ثلاث رميات حجر من المدينة يوجد أحجار ضخمة وحمام مكون من عين ماء ساخن يتدفق ويعيش فيها عدد كبير من السلاحف تعتقد النساء أنها شياطين ،وإذا أتفق أن أصيبت النساء بالحمى أو غيرها تقول سبب ذلك يرجع إلى السلاحف وللتخلص من الداء تذبح حينا دجاجة بيضاء تضعها في إناء بريشها الكامل تم تربط حول الإناء شمعات وتحمله إلى العين حيت تتركه وكم من الظرفاء تبعوا امرأة وهي تتوجه إلى العين حاملة معها الإناء و الدجاجة وأخذوا الإناء بعد انصرافها تم طبخوا الدجاجة وأكلوها" 
وكانت معظم العائلات القسنطينية تجلب السلاحف إلى بيوتها حيث يعتقد أنها تحمي من الإصابة بالعين
يوم الخميس  تنتقل المعنية وعائلتها لإكمال ممارسة طقوس النشرة إلى  إحدى الفرق التقليدية المشهورة بمدينة قسنطينة وكل عائلة تختار الفرقة حسب اللون و الطابع الذي تميل إليه فمنهم من يفضل إحياء  و ممارسة طقوسه على وقع الوصفان، و منهم من يختار وقع لخوان أو عيساوة و منهم من يكتفي بفرقة البنوتات أو الفقيرات وهو  جوق نسوي  بحي سيدي جليس المعروف بإسم جوق الكحلة، يحترف هذا الجوق المديح الديني للنساء وتدور كلماتهن غالبا حول مدح الرسول و التبرك بالأولياء الصالحين  ويعتمدن أساسا على الدف و الدربوكة و الطار ، وتمارس صاحبة النشرة الرقص المصطلح عليه محليا "بالتهوال"  الهوية الموسيقية للطقس ، بحركات وتمايلات يمينا وشمالا إلى الأمام و الخلف  مع التركيز على تدوير الرأس حتى الإغماء ، وهنا تتقدم المدعوات برشها بالعطر وماء الزهر لتستعيد وعيها وسط تهنئات النسوة لأنها تجاوبت في رقصها مع الجوق فأكملت رقصتها حتى  أغمي عليها" تغاشات "وهو ما يتكفل بطرد الأرواح الشريرة عنها حسب اعتقادهن
 ثم ترتاح المصابة يومي الجمعة و السبت لتستأنف بالأحد ، حيث  يتم الذهاب للحمام كما يعاد طقس الحنة مع طمينة لكن هذه المرة يكون مخصصا للوصفان  حيث يحمص الدقيق حتى يسمر لونه ويحضر بنفس الطريقة السالفة الذكر
 و كلمة وصفان هي جمع مفرد وصيف وهم مايدلل به  في المحكي المحلي على شديد السمرة أو ذو البشرة السوداء، وهم جماعة يقال أن أصلهم من جنوب  إفريقيا يمثلون فرقة فنية تمارس نوعا موسيقيا روحيا يعتمد على آلات ايقاعية معينة مثل الطبول وآلة القمبري ولهم نصوصهم الغنائية الخاصة بهم و التي يصطلح عليها بإسم الديوان ويتم توارتها شفاهة عن طريق الحفظ السماعي؛ ويكون مقر تواجدهم بالمدينة القديمة وكانت لهم ثلاث بيوت مخصصة ناشطة بطقس النشرة دار برنو ودار هوسة ، ويرى البعض  أنهما يشكلان دار واحدة" فرد دار" لتواجدهما بحي سيدي الجليس،  إلا أن هذه الدار أغلقت، أما دار بحري فيعود تاريخها إلى 500 سنة وتقع بحي عبد الله باي أو السويقة وهي مازالت تنشط إلى يومنا هذا
في يوم الإثنين يتم الذهاب إلى أحد بيوت الوصفان  من أجل طقس "الشطيح و الرديح" كما يقال أي طقس التهوال الذي يبدأ باستعمال المرأة لما يشبه الخمار الدراية حيث تحضر قفة صغيرة " قرطلة " بها الدرايات بألوان مختلفة وردي أسود أبيض وأحمر، ولهذه الألوان دلالات  فاللون الأسود  يقابل مفهوم الموت و الأحمر مفهوم الحياة و الأبيض مفهوم السعادة والوردي يرمز إلى المرأة و الأنوثة
 كما تحضر معها البخور الذي يؤتى به موضوعا في "الكانون" وهي آنية فخارية يوضع بها الجاوي و المسك وتشعل النار من تحتهما لتعطير الأجواء  
ولابد أثناء ممارسة الطقوس  إشعال الشموع  فهي تستعمل  لتضيئ العتمة بقلب المريضة فتنير لها طريقها ولأن الجن لاتتواجد إلا بالعتمة  حسب اعتقادهن فإن في ممارسة فعل الإضاءة طرد لهم 
وهناك طقس آخر يسمى بطقس الملعب  وهو تكملة طقسية خاصة حيث يتميز الملعب بعدم ممسارته من قبل كل النسوة التي تقوم بطقوس النشرة، ويمكن أن يرتبط بحلم يأتي للمعنية فتتكفل بابتياع القربان أو الاضحية التي ستقدم لدرء البلاء وكف شر الأرواح الخفية ، و الأمر هنا يتطلب ميزانية هامة خاصة فهو  يتعلق بتقديم تيس أي "عتروس"
و الملعب تكون ممارسته بمنزل الجوق الموسيقي التي ستحييه فتتجه مثلا  إلى دار برنو  فتتكفل دار برنو بذبح التيس ، وغالبا لا يذكر إسم الله على الذبيحة إرضاء للجن،  تم تقوم المعنية أو صاحبة النشرة بالدوران الطقسي عليه 7 مرات  مع الرقص ومن تم  يتم إكمال عملية السلخ و التقطيع لتطهى وليمة بلحمه  
ويقوم  الوصفان بتقديم مقاطعهم الموسيقية  مرفوقة برقصهم الذي يتم من خلاله  تقديم ممارسات سحرية يلعب فيها أفراد الفرقة بالسيوف وسط الحضور فيدخلونها بأفواههم وبمناطق عدة من أجسامهم دون أن يتأذوا أو تسيل دمائهم ، وتبرر هذه الألعاب تسمية الملعب فهم يلعبون بالسيف بمساحة معينة
وموسيقى الديوان تدفع جسم المصابة على الرقص  أو التهوال حتى يغمى عليها  وهو مايتكفل بطرد الأرواح الشريرة عنها بحكم أنها قدمت طقوس الولاء و الطاعة، وتقتضي الممارسة من الحاضرين و الحاضرات" كحبابات مولات النشرة"  الذين جاءوا مع المصابة  التسليم بما يتم فعله مع إعلان عجزهم  عن تغييره ويتجلى ذلك في مقاطعة اليدين مرتين تم وضعهما متقاطعين على الأكتاف مع ترديد عبارة" مسلمين مكتفين " أي أننا مسلمون بما ترضونه غير مقدمين على معارضتكم و المتعارف عليه محليا عدم تسمية الجن  حيث يكتفي المتحدث بالإشارة إليهم بهذا الفعل  ولهذا يستحسن بعدم تكرار هذا الفعل المرافق لهذه الجملة "مسلمين مكتفين"
بعد إكمال طقس الملعب  تنهض المعنية من اغمائها تحس بأنها ارتاحت أي شفيت 
غير أن تلك  الممارسات  التي تخص النشرة تكاد تختفي في وقتنا  الحالي  وربما ماتزال القلة القليلة فقط  من العائلات التي تمارسها ولكن بتفاصيل غير التي كانت موجودة قبل ، فقد انقطعت الزيارات للأماكن المقدسة  وبالأخص منذ العشرية السوداء،   لصعود جيل جديد مثقف آمن بمخالفة النشرة للمعتقد الديني،  غير أن هذا الإنتقال إلى مرحلة العقل و الوعي من مرحلة الخرافة استغرق زمنا طويلا فقد سعت الحركات الإصلاحية التي ظهرت خلال العهد الإستعماري كجمعية العلماء المسلمين وغيرها في محاربة هذه الطقوس التي كان يسميها الإمام عبد الحميد بن باديس بالإستعمار الروحي  
 ومن الذين دعوا لنبذ الخرافات، ومحاربة  البدع التي ألصقها “الجاهلون” بالدين الحنيف الشيخ المولود إبن الموهوب مفتي قسنطينة و الذي لخص تلك الخرافات  في قصيدته المعنونة بالمنصفة ومن الباحثين من يعد هذه القصيدة بداية للشعر الإصلاحي في الجزائر
ضمنت هذه القصيدة  القريبة من اللغة اليومية تقريرا عن واقع مدينة قسنطينة ومعيشة سكانها دونما إغفال لخلفيته التاريخية و العمق الأسطوري لتمثلات أهلها وممارستهم،فقد لمحت القصيدة في إشارات فلسفية على قدر كبير من العمق  إلى تلك الطقوس الخاصة التي كان يمارسها سكان المدينة كالنشرة و الزيارة و الزردة  التي تذرعت بالوثنية وفرطت في الوحدانية
ففي بعض الأبيات يقول:
 وسل زارا ونسر مسيد طبل      وزينتنا تبيع التابعينا
وسل عنا السلاحف في غراب واعطارا تراق وعائمينا
وسل غابا لحكم الجن أضحى   يقينا كل ضر قد يقينا
وسل  ذاك الحمام لدى حمام   نذبحه بلا إثم عامدينا
وسل سدرا به خرق انيطت    وغيرا حيث نفزع ناذرينا
 وردت عبارة زارا  ونسر مسيد طبل في شكل تساؤل محير، فزارا المشار إليها هي الزيارة للمزارات ، أما المقصود بنسر مسيد طبل فهو  ذلك اليوم من أيام الطقوس الذي  يخرج في موكب أفواج الزنوج بطبولهم في الجبل المسمى سيدي مسيد،  كما تتجه  النسوة إليه  حاملات لأفئدة الضأن و المعز  فيرمين الأفئدة  في الجبل فتأتي النسور تلتقطها فيزعمن أن الأولياء الصالحين قد رضوا عنهن ،  و الأولياء في اعتقادهن هم النسور الملتقطون لتلك الأفئدة 
أما البيت الذي تضمن السلاحف في غراب وأعطارا فقد تطرقت له بالتفصيل في موضع سيدي الغراب
هذه لمحة مبسطة عن العادات التي كانت متفشية في الوسط الإجتماعي القسنطيني في وقت من الأوقات عندما كان الجهل طاغيا على العقول.

المصادر:
-تاريخ بلد قسنطينة الشيخ الحاج أحمد بن المبارك بن العطار ، تحقيق وتعليق عبد الله حمادي
-الباحثة هدى جباس من جامعة قسنطينة  دراسة بعنوان النشرة أو عندما تجسد الممارسات الطقسية هوية الإنتماء  بمجلة العلوم الإنسانية و الإجتماعية العدد  28 
-النشرة أو حكم علاج السحر بالسحر بقلم عبد العظيم بن إبراهيم ابابطين
-تاريخ الجزائر الثقافي 1830 - 1954  أبو القاسم سعد الله ،الجزء الأول و الرابع و السابع 
-كتابات دوتيه عن الإسلام الجزائري و الإسكندر جولي عن الطرق الصوفية
-طوالبي نور الدين : الدين و الطقوس و التغيرات الإجتماعية، ترجمة وجيه البعيني
-الوزان الفاسي الحسن بن محمد ليون الإفريقي وصف إفريقيا الجزء الثاني ترجمة حجي محمد الاخضر 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مصطلح عيشة راجل

انتفاضة قسنطينة سنة 1934م

الألعاب الشعبية في الجزائر