السلطانة خاصكي


اهتمت  بعض الكتب التاريخية  بالحديث عن حريم سلاطين الدولة العثمانية  اللاتي لعبن دورا مميزا وبارزا في الحياة السياسة و الإجتماعية بسبب نشاطاتهن السياسية داخل القصور وأعمالهن الاجتماعية الخيرية، ومن أبرزهن  على الإطلاق السلطانة خرم أو روكسلانا  زوجة السلطان سليمان القانوني ووالدة سليم الثاني  التي يقال عنها أنها كانت بوابة الأحداث الكبيرة في تاريخ العثمانيين، فهي تعتبر من أولى النساء التي جسدت سيادة المرأة وسطوتها في قصور الدولة العثمانية ، فقد فرضت هيمنتها على النساء في بلاط القصر العثماني بعد ان كانت جارية تم إرسالها كهدية إلى القصر السلطاني من قبل حاكم القرم  وعمرها لا يتجاوز السابعة عشر
ويذكر بعض المؤرخين أن هذه الجارية قد تم أسرها من طرف تتار القرم أثناء الهجمات التي قاموا بها على منطقة روجاتينو التي نشأت بها  الكساندرا او ركسلانا كما تسميها المصادر الغربية  في حين نجد أنها لا تكاد تعرف في  المصادر العثمانية سوى باسم واحد فقط هو السلطانة خاصكي

ولا توجد معلومات دقيقة حول فترة أسرها إلا ما يذكره بعض المؤرخين أنه خلال الفترة الأولى التي عاشتها في قصر القرم سميت روكسلانا  باسم خرم أو خرم شاه  وذلك لأنها كانت بشوشة الوجه ودائمة البهجة وفي السنوات التي قضتها خرم في قصر القرم انشغلت بالتدريب و تحصيل العلم وبعد سنوات تم تقديمها إلى السلطان القانوني و بالضبط سنة  1520م  ، ولذلك الوقت كان قد مضى أكثر من شهرين على اعتلائه العرش  العثماني ،  ولقد نجحت خرم في أن تلفت نظر السلطان سليمان  من بين جواري القصر الكثيرات حتى أنها استطاعت في النهاية أن تصبح محظيته و الأقرب إليه من بينهن  فرفعها إلى مرتبة الزوجة الشرعية وخاصة بعد أن أنجبت له الأمراء
 وقد أحبها السلطان سليمان لذكاها ولشخصيتها القوية وليس لجمالها فهي لم تكن  تتمتع بجمال بارع بل كانت لها جاذبية ذات طابع خاص على رأي الرحالة الايطالي بيترو براجادينو الذي وصفها قائلا:" ليست جميلة لكنها لطيفة"
تعتبر اللوحات التي رسمت في ذلك الوقت لخرم دليلا مهما يوضح لنا الهيئة و الشكل الذي كانت عليهما ولكن على سبيل التقريب لا المطابقة إذ انه وفقا لتقاليد ذلك العصر  لم يكن من الممكن للسلطانة خرم أن تقف أمام أحد  الرسامين لتأخذ الوضع الذي سيرسمها عليه ، وبالتالي فإن الصور المتاحة بين أيدينا اليوم والتي تنسب  إلى السلطانة خرم لا يمكن اعتبار أي منها صورا حقيقية لها  وإنما هي صور تقريبية
تعرضت سيرة هذه السلطانة للكثير من الافتراءات و الأباطيل صاغها  بعض الكتاب الغربيون وتبعهم المؤرخون  الأتراك في ذلك ، فلفقوا في حقها قصص الشر والمؤامرات من أجل تشويه صورتها وصورة السلطان سليمان القانوني على  حد سواء ، ففي مؤلفات فيرفاكس دوني و هارولد لامب وغيرها من المؤلفات الأجنبية  نجد قصصا وروايات لا تعتمد على أي أساس من الصحة وتبدو في صورة حكايات خيالية  تصور السلطان سليمان ضعيف النفس، أسيرا لغرائزه و مولعا بالنساء و الخمر، لقد كان هدفهم هو التقليل من قيمة القانوني الذي رفع راية الإسلام عاليا و استطاع  أن يملا بأصوات نعال خيوله العثمانية أرجاء القارة الاروبية ما جعل ملوك أوروبا يلقبونه بالسلطان العظيم أو الكبير 
هذا الرجل الذي قال عنه المؤرخون الإنجليز أن يوم موته كان من أعياد نصارى أوروبا. 
 كما أنه يعتبر  من أطول سلاطين الدولة العثمانية حكما وأكثرهم فتحا للبلاد وأشدهم تمسكا بتطبيق الشريعة ولقد أطلق على فترة حكمه بإسم العصر الذهبي

وقد  لقب بالقانوني لشدة عدله ولكثرة القوانين التي وضعها من أجل ضمان حياة عادلة ومستقرة لشعبه


لقد حاول هؤلاء أن يطبعوا في الأذهان صورة سيئة  عن السلطان  سليمان ومع الأسف فقد انساق الكتاب الأتراك هم الآخرون وراء هذه الادعاءات و الأكاذيب ، و قد كانت الحوادث المتعلقة بمقتل الصدر الأعظم إبراهيم باشا و الأمير مصطفى ابن السلطان سليمان إحدى حلقات سلسلة الأحداث  التي استغلها هؤلاء الكتاب الغربيون  من أجل إثبات ادعاءاتهم و الوصول إلى غاياتهم ، وقد سعوا جاهدين لإظهار السلطانة خرم ذات الفطنة و صاحبة الفراسة على أنها منبع للشر و الفساد وأن لها يد في الأحداث الدموية التي حدثت في ذلك العصر فقد اتهموها بتحريضها على قتل إبراهيم باشا يقول أحد المؤرخين  في ذلك :"أن من المؤكد أن السلطانة خرم استخدمت نفوذها  وتأثيرها على السلطان من أجل القضاء على إبراهيم باشا تماما وإزاحته وإعدامه"
 كما  يقول البعض أنها سعت للقضاء على الأمير مصطفى ابن سليمان و جلبهار ليتولى ابنها سليم الخلافة  من بعد أبيه  بدلا من الأمير مصطفى الذي كان هو الوريث للعرش  العثماني في حالة وفاة السلطان سليمان  
إن المؤرخين الغربيين أو من تاثر بهم يسوقون هذه الادعاءات ويدافعون عنها إلا أنهم لم يتمكنوا من أن يقدموا أية وثيقة تؤكد أن مقتل إبراهيم باشا كانت نتيجة للإشاعات و الوشايات التي كانت تبثها خرم في اذن السلطان فهم لم يقدموا سوى مجموعة من المعلومات التي تستند إلى حزمة من الحوادث المشكوك في صحتها وهذه الادعاءات في نهاية الأمر تفتقر إلى الدليل و البرهان الذي يمكن أن يثبتها
إن الهجوم بأبشع الأساليب على الحياة الأسرية الخاصة بالسلطان سليمان وزوجته خرم وتحريف الأحداث و الوقائع وتصويرها من خلال جو مثير وشهواني  كما حصل في مسلسل حريم السلطان التركي الذي عرض منذ مدة على القنوات العربية ما هو إلا دراما لا أساس له من الصحة خصوصا وأن  السينما التركية علمانية محضة ولا تعرف من الإسلام إلا رسمه
وقد أخرج المسلسل نظام الحريم العثماني بشكل خاطئ  و الحقيقة أن جناح الحريم كان يعتبر لدى العثمانيين  بمثابة المهد الذي تنشأ وتترعرع فيه الأخلاق و العلم و التربية ، و الجواري اللواتي سنحت لهن الفرصة للتواجد في جناح الحريم كانت كل واحدة منهن يتم تدريبها على آداب وأخلاق المعاملة ويتم كذلك تعليمها القراءة و الكتابة وأحكام القرآن و العلوم الدينية ،  هذا إلى جانب فنون الأدب و الموسيقى  و التطريز ،  و المئات من هؤلاء الجواري قد تزوجن بموظفين قد تخرجوا من اندرون ونجحوا في إدارة الدولة
 وحتى خرم صحيح أنها  كانت جارية لكنها أسلمت بعد أن كانت مسيحية  وحسن إسلامها ، وقامت بأعمال خيرية متعددة  لاتزال قائمة ليومنا هذا في بعض البلدان العربية مثل بناء استراحات لحجيج بيت الله الحرام وبناء الاسبلة المائية ، كما أمرت بإكمال الطريق إلى مكة بعد رجوعها من الحج
 ونجد أن قطب الدين المكي الذي كان من العلماء المشاهير في تلك الفترة يذكر لنا أن السلطانة خرم  قد أنشأت الكثير من الأوقاف و الأعمال الخيرية في عدة مدن عثمانية وعلى رأس هذه الأعمال ما نجده في مكة و المدينة و القدس
كما أنها أمرت ببناء مسجد وإنشاء مدارس دينية لتعليم القرآن الكريم، إضافة إلى مستشفى طبي خاص بالنساء وحمام لخدمة المصلين في آيا صوفيا  والذي  قد  أنشئ أيضا  من اجل تامين وتوفير النفقات التي تحتاجها أوقاف السلطانة خرم
يذكر لنا الرحالة اوليا جلبي  أن حمام خاصكي الذي يعتبر حماما لأعيان واشراف القوم كان يعد من أكبر وأجمل حمامات السوق بإسطنبول
 كما أنشأت مجمعا كبيرا ضم بداخله جامعا ومدرسة دينية ودارا لإطعام المساكين ومدرسة للصبيان ما يعرف بمجمع خاصكي 
 ولقد كانت الأعمال الخيرية للسلطانة خرم منصبة بشكل رئيسي على مساعدة النساء العثمانيات من داخل قصر السلطان أو حتى من خارجه ، كما شملت مساعداتها أيضا الفقراء و المساكين و المرضى وهذا دليل على رحمة السلطانة خرم وعلى مدى حبها للخير ، كما أن ابنتها الوحيدة مهرماه أيضا عرفت بحبها للخير فقد تمكنت من إنجاز خدمات عظيمة في البقاع المقدسة  فخلفت بذلك هي  ووالدتها السلطانة خرم  تاريخا حافلا بالإنجازات الخيرية.

المصادر:


١-السلطنتان خرم ومهرماه قرينة القانوني وسليلته جان البجو ونج.

٢-السلطان سليمان القانوني مرارة الواقع ودراما كاذبة صلاح ابو دية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مصطلح عيشة راجل

انتفاضة قسنطينة سنة 1934م

الألعاب الشعبية في الجزائر