المعماري العثماني سنان باشا رحمه الله


اشتهر في تاريخ الهندسة المعمارية العثمانية في القرن السادس عشر ميلادي المعماري سنان  اغا الذي  حفر إسمه بحروف من ذهب و الذي حقق نجاحات باهرة ظهرت جليا في التحف المعمارية التي مازالت قائمة  تنبض بروح الإبداع الممزوج بدقة الصنع
فلقد  خلف وراءه بعد حياة حافلة ومثمرة  أزيد من ثلاثمائة  تحفة فنية حول العالم ، فأعماله لم تقتصر على القسطنطينية فحسب بل تجاوزت لتصل إلى  الولايات التي كانت تابعة لحكم الإمبراطورية العثمانية في ذلك العهد
ومن أهم الأعمال التي أكسبته شهرة جامع السليمانية،  وشاه زاده ،  ومجمع خاصكي بإسطنبول، وجامع السليمية بادرنة ، و لقد اتسمت أعماله بالتنوع لتشمل الأضرحة و المستشفيات و قنوات المياه  و القصور و الحمامات و الجسور  وغيرها من الأبنية،  بالإضافة إلى المؤسسات الخيرية التي شيدها في سبيل الله  بأمر من السلطانة خرم و ابنتها السلطانة مهرماه
أظهر سنان براعة لا مثيل لها في فن العمارة فلقد تفتحت عيناه في الأناضول على رؤية العمائر السلجوقية وبانضمامه لجيش الانكشارية أتيحت له فرصة التعرف على التراث المعماري للأمم و الشعوب  فخلال  مشاركته في الحملات العثمانية على اروبا ، و بلاد فارس و الشام  تعرف على المعمار البيزنطي و الروماني و المملوكي وغيرها من الطرز المعمارية التي غذت ذكائه وحسه المعماري 
كما أن تأثره الشديد بهندسة كنيسة ايا صوفيا ولد لديه الإصرار و التحدي على إنجاز أعظم الأعمال التي كانت في النهاية مزيج رائع  من الطراز البيزنطي و الفارسي و السلجوقي بصبغة عثمانية لا مثيل لها
يقول عن نفسه:" لقد كان أساطين المعمار في الغرب يزعمون أنهم قد انتصروا على المسلمين لعدم تمكنهم من بناء قبة واحدة في الدولة الاسلامية تضاهي قبة ايا صوفيا وكانت حجتهم في ذلك أنه من الصعب على المسلمين إنشاء قبة كبيرة  بهذا الحجم كتلك الموجودة في اياصوفيا فلقد ادمت هذه الكلمات قلبي وبعثت في داخلي روح  المنافسة"؛  فما كان من ذلك المعماري العبقري إلا أن يخلف  تحفة السليمية التي فاقت في روعتها وجمالها ايا صوفيا  فقد أظهر براعة لا نظير لها في  تغطية مساحة كبيرة بقبة واحدة كانت في منتهى الروعة و الجمال  وعندما أتم جامع السليمية اقترح عليه بوضع اسمه على النقش الكتابي فرد بقوله: "من أنا لاضع إسمي على بيت من بيوت الله "، كان لجوابه هذا دليل على تواضعه ولعل هذا الذي جعله يحقق كل تلك النجاحات
و لقد نجح المعماري سنان بعبقريته الفذة  تطوير الأساليب المعمارية التي كانت موجودة في عهده فبفضل التقنيات التي ابتكرها جعلته في مصاف عظماء عصره 
وأهم هذه التقنيات:
-  تغلبه على ضعف الصوت في المساجد فلقد أدرك أهمية القباب وخاصة في المساجد ذوات المساحات الكبيرة لذلك كان يستكثر منها لأنها كانت تمثل منفذا لرد صوت الإمام أو الخطيب أو المؤذن قبل ظهور مكبرات الصوت
 -كما تغلب سنان على ضعف الضوء عن طريق استحداث حلين :
أحدهما ترك باحة وسط المسجد غير مسقوفة وتحيط بها البواكي و الأقواس و المساحات المغطاة في شكل أنيق رائق 
و الثاني  وضع نوافذ بأعلى الجدران  مكونة من الزجاج الملون ذو الأشكال الفنية  فيتحول المسجد من الداخل إلى سمفونية باهرة
-و تغلب على هباب المصابيح بتحويله الى حبر عالي الجودة ؛ فمن المعروف أن المادة الأساسية في صناعة الحبر هي السخام الذي  يجمع  من المصابيح و القناديل  ولقد استحدث سنان طريقة جديدة لجمع هذا السخام المنبعث من فضاء مسجد السليمانية بإسطنبول فأنشأ غرفة فوق المدخل الرئيسي للجامع ، ثم وضع فيها العديد من المصافي حيت ضمن عن طريقها امتصاص السخام المتصاعد من القنادل وبعد ذلك أخذ هذه المصافي فغمسها في الماء فداب السخام وتحول إلى حبر
وبهذه الطريقة وفق العبقري  سنان في اجتياز مشكلة تراكم السخام على نقوش الجامع العليا ونجح في حماية الجدران من السخام الناتج من قناديله
 كما ابتكر حبر عالي الجودة يسمى بحبر الحاج حيث كان السخام الذي يجمع يوضع في البراميل المعباة بالصمغ العربي و الماء الصافي تم يرسل الى الحج على متون جمال قافلة المحمل النبوي الشريف ليسير في رحلة تستغرق ذهابا وايابا ستة أشهر تقريبا إلى الأراضي المقدسة ، اذ ينخض خلال الرحلة انخضاضا متواصلا فيختمر فيتحول إلى حبر يطلق عليه اسم حبر الحاج 
وقد إستخدم العثمانيون هذا الحبر في خط القرآن الكريم و الأحاديث النبوية و  الفرمانات السلطانية  و الإدارية من قبل خطاطين بارعين
إن المعرفة العميقة لسنان بتقنيات الإنشاء و الهندسة مكنته من إضافة أشكال جديدة للعمارة العثمانية وإيجاد نماذج تقنية لم يعرفها سابقوه  وهذا ما جعله صاحب مدرسة معمارية مميزة
 وقد تخرج على يديه العديد من المعماريين البارعين اهمهم تلميذه محمد اغا الذي شيد جامع السلطان أحمد المشهور بالجامع الأزرق بإسطنبول ،  وقد استعان هذا المهندس بالتصميمات القديمة الخاصة بمعلمه سنان مع إضافة ما استجد من فنون معمارية أخرى
لقد اعتز الأتراك كثيرا بسنان وأطلقوا عليه إسم معمار باشي كما أطلقوا إسمه على بعض مؤسساتهم ، وبالرغم من رحيله عن هذه الدنيا من وقت طويل إلا أن إسمه  بقي خالدا  

وبمروري على ضريحه المتواجد بالقرب من  جامع السليمانية  بإسطنبول  وقفت مندهشة  لبساطة تخطيطه فبالرغم من إنجازات سنان العظيمة  التي تميزت  بالضخامة و الفخامة إلا أن ضريحه  الذي شيده بنفسه  قبل وفاته كان في غاية البساطة  فقد صمم مكشوفا و محاطا بسور  تلتقي جدران هذا الأخير بمبنى  دائري الشكل تعلوه قبة صغيرة   كما هو مبين في الصور التي التقطتها 
وهذا إن دل على شيئ فهو يدل على قمة التواضع و طهارة النفس.
                       رحمه الله وجزاه خير الجزاء .






المصادر: 
-العثمانيون رجالهم العظام ومؤسساتهم الشامخة عثمان نوري طوباش ترجمة د محمد حرب
-مدهشات من الدولة العلية العثمانية ومساجدها عبد السلام البسيوني


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مصطلح عيشة راجل

انتفاضة قسنطينة سنة 1934م

الألعاب الشعبية في الجزائر